علم اجتماع
Category
📚
LearningTranscript
00:00في الحروب ومذاهب الأمم في ترتيبها اعلم أن الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ برأها الله
00:13وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض ويتعصب لكل منها أهل عصبيته
00:22فإذا تذامروا لذلك وتواقفت الطائفتان إحدى هما تطلب الانتقام والأخرى تدافع كانت الحرب وهو أمر طبيعي في البشر لا تخلو عنه أمة ولا جيل
00:40وسبب هذا الانتقام في الأكثر إما غيرة ومنافسة وإما عدوان وإما غضب لله ولدينه وإما غضب للملك وسعي في تمهيده
00:57فالأول أكثر ما يجري بين القبائل المتجاورة والعشائر المتناظرة
01:04والثاني وهو العدوان أكثر ما يكون من الأمم الوحشية الساكنين بالقفر كالعرب والترك والتركمان والأكراد وأشباههم
01:16لأنهم جعلوا أرزاقهم في رماحهم ومعاشهم فيما بأيدي غيرهم
01:25ومن دافعهم عن متاعه آذنوه بالحرب ولا بغية لهم فيما وراء ذلك من رتبة ولا ملك
01:36وإنما هممهم ونصب أعيونهم غلب الناس على ما في أيديهم
01:44والثالث هو المسمى في الشريعة بالجهاد والرابع هو حروب الدول مع الخارجين عليها والمانعين لطاعتها
01:55فهذه أربعة أصناف من الحروب
01:59الصنفان الأولان منها حروب بذي وفتنة والصنفان الأخيران حروب جهاد وعدل
02:09وصفة الحروب الواقعة بين الخليقة منذ أول وجودهم على نوعين نوع بالزحف صفوفا
02:17ونوع بالكر والفر
02:19أما الذي بالزحف فهو قتال العجم كلهم على تعاقب أجيالهم
02:25وأما الذي بالكر والفر فهو قتال العرب والبربر من أهل المغرب
02:32وقتال الزحف أوثق وأشد من قتال الكر والفر
02:38وذلك لأن قتال الزحف ترتب فيه الصفوف وتسوى كما تسوى القداح أو الصفوف الصلاة
02:48ويمشون بصفوفهم إلى العدو قدما
02:53وأما قتال الكر والفر فليس فيه من الشدة والأمن من الهزيمة ما في قتال الزحف
03:01إلا أنهم قد يتخذون وراءهم في القتال مصافا ثابتا يلجئون إليه في الكر والفر
03:10ويقوم لهم مقام قتال الزحف
03:14ثم إن الدول القديمة الكثيرة الجنود المتسعة المماليك
03:20كانوا يقسمون الجيوش والعساكر أقساما يسمونها كراديس
03:27ويسوون في كل كردوس صفوفة
03:31وكان الحرب أول الإسلام كله زحفا
03:36وكان العرب إنما يعرفون الكر والفر
03:39لكن حملهم على ذلك أول الإسلام أمران
03:43أحدهما أن عدوهم كانوا يقاتلون زحفا
03:48فيضطرون إلى مقاتلتهم بمثل قتالهم
03:52الثاني أنهم كانوا مستمتين في جهادهم لما رغبوا فيهم من الصبر
03:58ولما رثخ فيهم من الإيمان والزحف إلى الاستماكة أقرب
04:04ثم تنوسي الصف وراء المقاتلة بما داخل الدول من الترف
04:12وذلك أنها حينما كانت بدوية وسكناهم الخيام
04:17كانوا يستكثرون من الإبل وسكن النساء والولدان معهم في الأحياء
04:23فلما حصلوا على ترف الملك وأليفوا سكن القصور والحواضر
04:30وتركوا شأن البادية والقفر نسوا لذلك عهد الإبل والضعائن
04:36وصعب عليهم اتخاذها
04:38فخلفوا النساء في الأسفار
04:41وحملهم الملك والترف على اتخاذ الفساطيط والأخبية
04:46فقد اتصروا على الظهر الحامل للأثقال والأبنية
04:50وكان ذلك صفتهم في الحرب
04:53ولا يغني كل الغناء لأنه لا يدعو إلى الاستماكة كما يدعو إليها الأهل والمال
05:02فيخف الصبر من أجل ذلك
05:04وتصرفهم الهيعات وتخرم صفوفهم
05:09فاحتاج الملوك بالمغرب أن يتخذوا جندا من هذه الأمة المتعودة الثبات
05:16في الزحف وهم الإثرنج
05:19ويرتبون مصافهم المحدقة بهم منها
05:24هذا على ما فيه من الاستعانة بأهل الكفر
05:28وإنما استخفوا ذلك لضرورة التي أريناكها من تخوف الإجفال على مصاف السلطان
05:37والإثرنج لا يعرفون غير الثبات في ذلك
05:42لأن عادتهم في القتال الزحف
05:45فكانوا أقوم بذلك من غيرهم
05:48مع أن الملوك في المغرب إنما يفعلون ذلك عند الحرب مع أمم العرب والبربر
05:56وقتالهم على الطاعة
05:58وأما في الجهاد فلا يستعينون بهم حذرا من ممالأتهم على المسلمين
06:05هذا هو الواقع بالمغرب لهذا العهد
06:09وقد أبدينا سببه
06:11والله بكل شيء عليم
06:14وانظر وصية علي رضي الله عنه وتحريضه لأصحابه يوم صفين
06:21تجد كثيرا من علم الحرب ولم يكن أحد أبصر بها منه
06:27قال في كلام الله
06:29فسووا صفوفكم كالبنيان المرصوص
06:34وقدموا الدارع وأخروا الحاسر
06:37وغضوا الأبصار فإنه أربط للجأش وأسكن للقلوب
06:43وأخفتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل وأولى بالوقار
06:50وأقيموا راياتكم فلا تميلوها ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم
06:57واستعينوا بالصدق والصبر فإنه بقدر الصبر ينزل النصر
07:04وقد قال عمر لأبي عبيد بن مسعود الثقاثي
07:09لما ولاه حرب فارس والعراق
07:12فقال له اسمع وأطع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
07:19وأشركهم في الأمر ولا تجيبن مسرعا حتى تتبين
07:25فإنها الحرب ولا يصلح لها إلا الرجل المكيث الذي يعرف الفرصة والكف
07:32وقال له في أخرى
07:35إنه لن يمنعني أن أؤمر سليطا
07:39إلا سرعته في الحرب وفي التسرع في الحرب
07:44إلا عن بيان ضياء
07:46والله لولا ذلك لأمرته
07:49لكن الحرب لا يصلح لها إلا الرجل المكيث
07:54هذا كلام عمر
07:56وهو شاهد بأن التثاقل في الحرب أولى من الخفوف
08:01ولا وثوق في الحرب بالضفر
08:04وإن حصلت أسبابه من العدة والعديد
08:08وإنما الضفر فيها والغلب من قبيل البخت والاتفاق
08:14وبيان ذلك أن أسباب الغلب في الأكثر مجتمعة من أمور ظاهرة
08:21وهي الجيوش ووفورها وكمال الأسلحة واستجادتها وكثرة الشجعان وترتيب المصاف
08:31ومنه صدق القتال وما جرى مجرى ذلك
08:35ومن أمور خفية وهي إما من خدع بشرية
08:40وحيالهم في الإرجاف والتشانيع التي يقع بها التخذيل
08:46وفي التقدم إلى الأماكن المرتفعة ليكون الحرب من أعلى
08:52فيتوهم المنخفض لذلك
08:55وفي الكمون في الغياض ومطمئن الأرض والتواري بالكدى عن العدو
09:02حتى يتذاولهم العسكر دفعة وقد تورطوا فيلتفتون إلى النجاة
09:09وأمثال ذلك
09:12وإما أن تكون تلك الأسباب الخفية أمورا سماوية لا قدرة للبشر على اكتسابها
09:19تلقى في القلوب
09:21فيستولي الرهب عليهم لأجلها فتختل مراكزهم فتقع الهزيمة
09:27وأكثر ما تقع الهزائم عن هذه الأسباب الخفية لكثرة ما يعتمل لكل واحد من الفريقين فيها حرصا على الغلب
09:41فلابد من وقوع التأثير في ذلك لأحدهما ضرورة
09:46ولذلك قال صلى الله عليه وسلم
09:49الحرب خدع
09:51ومن أمثال العرب
09:54رب حيلة أنفع من قبيلة
09:57فقد تبين أن وقوع الغلب في الحروب غالبا عن أسباب خفية غير ظاهرة
10:04ووقوع الأشياء عن الأسباب الخفية
10:08هو معنى البخت كما تقرر في موضعه
10:12فاعتبره وتفهم من وقوع الغلب عن الأمور السماوية كما شرحناه
10:19معنى قوله صلى الله عليه وسلم
10:22نصرت بالرعب مسيرة الشهر
10:26وما وقع من غلبة للمشركين في حياته بالعدد القليل
10:32وغلب المسلمين من بعده كذلك في الفتوحات
10:36فإن الله سبحانه وتعالى تكفل لنبيه بإلقاء الرعب في قلوب الكافرين
10:44حتى يستولي على قلوبهم فينهزموا
10:48معجزة لرسوله صلى الله عليه وسلم
10:52فكان الرعب في قلوبهم سببا للهزائم في الفتوحات الإسلامية كلها
10:58إلا أنه خفي عن العيون
11:03وقد ذكر الطرطوشي أن من أسباب الغلب في الحروب أن تفضل عدة الفرسان المشاهير من الشجعان في أحد الجانبين على عدتهم في الجانب الآخر
11:17وهو راجع إلى الأسباب الظاهرة التي قدمنا
11:22وليس بصحيح
11:24وإنما الصحيح المعتبر في الغلب حال العصبية أن يكون في أحد الجانبين عصبية واحدة جامعة لكلهم
11:34وفي الجانب الآخر عصائب متعددة
11:40لأن العصائب إذا كانت متعددة يقع بينها من التخاذل ما يقع في الوحدان المتفرقين الفاقدين للعصبية
11:52إذ تنزل كل عصابة منهم منزلة الواحدة
11:57ويكون الجانب الذي عصابته متعددة
12:01لا يقاوم الجانب الذي عصبيته واحدة
12:06لأجل ذلك
12:08فتفهمه واعلم أنه أصح في الاعتبار مما ذهب إليه الطرطوشي
12:14مع أن هذا وأمثاله على تقدير صحته إنما هو من الأسباب الظاهرة
12:22مثل اتفاق الجيش في العدة وصدق القتال وكثرة الأسلحة وما أشبهها
12:30فكيف يجعل ذلك كفيلا بالغلب
12:33ونحن قد قررنا لك الآن أن شيئا منها لا يعارض الأسباب الخفية من الحيل والخداع
12:43ولا الأمور السماوية من الرعب والخذلان الإلهي
12:48فافهمه وتفهم أحوال الكون
12:52والله مقدر الليل والنهار
12:55ويلحق بالمعنى الغلب في الحروب
12:59وأن أسبابه خفية وغير طبيعية حال الشهرة والصيت
13:06فقل أن تصادف موضعها في أحد من طبقات الناس من الملوك والعلماء والصالحين والمنتحلين للفضائل على العموم
13:17وكثير ممن اشتهر بالشر وهو بخلافه
13:22وكثير ممن تجاوزت عنه الشهرة وهو أحق بها وأهلها
13:30وقد تصادف موضعها وتكون طبقا على صاحبها
13:36والسبب في ذلك أن الشهرة وصيت إنما هما بالأخبار
13:43والأخبار يدخلها الذهول عن المقاصد عند التناقل
13:48ويدخلها التعصب والتشيع
13:51ويدخلها الأوهام
13:53ويدخلها الجهل بمطابقة الحكايات للأحوال
13:59لخفائها بالتلبس والتصنع أو لجهل الناقل
14:04ويدخلها التقرب لأصحاب التجلة
14:08والمراتب الدنيوية
14:11بالثناء والمدح وتحسين الأحوال
14:14وإشاعة الذكر بذلك
14:17والنفوس مولعة بحب الثناء
14:20والناس متطاولون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة
14:26وليسوا في الأكثر براغبين في الفضائل ولا متنافسين في أهلها
14:32وأين مطابقة الحق مع هذه كلها
14:37فتختل الشهرة عن أسباب خفية من هذه
14:41وتكون غير مطابقة
14:45وكل ما حصل بسبب خفي فهو الذي يعبر عنه بالبخت كما تقرر
14:52والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق
14:57ترجمة نانسي قنقر